رواية تاريخية سلسلة، مبسّطة وشاملة. أوراقها -أو بالأصح أوراق شمعون- لا تفسح لك المجال لتتنفس، الورقة فالورقة حتى تنتهي من الكتاب بغمضة عين. أسلوب كتابي شيّق وبسيط، لا يفسح دقيقة من الضجر. يجمع الكاتب ما بين الأسلوب الوعظي تارة والأسلوب السردي تارة أخرى، وأتقن ذلك الدمج لدرجة صعوبة التمييز بينهما.
يقوم شمعون بن زخاري النجار، والملقب بشمعون المصري بتسجيل حياته على الورق، وليست حياته فقط وإنما حياة قوم كامل، حياة بنو إسرائيل كاملة، منذ خروجهم من مصر حتى وفاة نبي الله موسى. يسجل شمعون تخبطاته، أمانيه، ويومياته وصعوبات عيشه وذكرياته، وتختلط تلك الأحداث الخاصة به بأحداث شعبه، فتغدو القصة قصة شعب كامل لا قصة شخص واحد.
تدور الرواية حول الفلسفة والدين والعادات، قد تجيب القارئ على أسئلته وقد تجعله يسأل أكثر. رواية تجعل القارئ يتأمل أكثر، ويعيد التفكير أكثر وأكثر، تغرقه في الأحداث، بينما تسقيه الحكمة. قد يقع قارئها في الحيرة والشك، ولكنها سرعان ما تطمئن قلبه، تسقيه من أدلة القرآن والتوارة والإنجيل، تمد له يد العون لفهم تاريخه بشكل ممتع وواثق، تضع له الحجر الأساس وتترك له الخيار في إكمال الرحلة.
"أدركت أن السعادة في تحقيق الغايات وليس تحقيق الأحلام، فالحلم ما هو إلا وسيلة للوصول إلى الغاية!"
"أتدري ما التيه، إنه الحياة على أمل كاذب، أن تشعر بأنك كلما اقتربت ابتعدت، وكلما دنوت بنوت، أن يحدوك الأمل ثم تتجرع خيبته مرات ومرات، ذلك هو التيه وتلك هي مرارته."
يدرك شمعون بأن الحياة ضياع في ضياع، تيه كامل، والانسان بيده الخيار دائمًا، له الخيار بأن يختار طريقه، وله الخيار بالطوب الذي يبني به نفسه، وله الخيار بأن يخرج من الضياع دائمًا، لكنه ليس بمأمن من العودة إليه.
"صمت الجميع، وعم السكون، وهدأت الريح، وشعرت كأن كل ما في الكون قد توقف ليشهد تلك اللحظة التي تتجلى فيها الحقيقة الأبدية التي لا مراء فيها، حقيقة أن أصعب ما في حياة البشر هي حرية الاختيار."
اقتباس تجتمع به الصورة، والشعور، والمعنى. يعود الاقتباس بنا مرة أخرى إلى الاختيارات، إلى قوتها الهائلة بتغيير الحياة، حتى أبسط الخيارات قد يكون أصعبها. قد تؤدي بنا اختياراتنا إلى أقصر الطرق المؤدية للموت، أو أن تحلق بنا عاليًا إلى أقصى غاياتنا، قد تنجينا أو تهلكنا، وكلها ظاهرة بوضوح في الرواية.
بالحديث عن التاريخ والوقائع والأديان والسفر، لم تخلو الرواية من المشاعر والحب والشجن. "وكنت أتساءل كيف طوعت تلك الفتاة ملامح وجهها الرقيق هكذا، كي يزداد فتنة مع كل كلمة تنطقها." وبذلك جمعت الرواية ما بين مغامرة الحب والتعلق، إلى السفر والترحال، والى العذاب والألم والموت. وجمعت أيضًا ما بين أسئلة فلسفية ووجدانية، إلى حقائق وقواعد حياتية. تأخذنا الرواية ما بين جد وتيه وحب، والأفضل من هذا كله، ألا للسأم مكان، ولا للوقت من حضور، فيطير الوقت سريعًا من أول صفحة، تاركًا مكانًا للذهول والدهشة.
قراءة ماتعة للجميع.
سارة الجريسي
تويتر : sarahaljeraisy