سبب استباق (محاولة) لـ (العيش ككاتب) في عنوان المقالة هو أن الظروف الحياتية ما تلبث أن تتدخل، بالنسبة لي على الأقل، في طريق هذا الحلم الرومانسي. ولكن في أيام محترف إثراء الثمانية تحقق الحلم مؤقتًا. فتوزعت أيامنا بين قراءة ما كتبناه، وكتابة ما سنقرأه، والنقاش حول أفكارنا، والتحاور فيما سنكتبه، ونقد نص زميل، والاستماع لانتقادات الزملاء، والاستفسار عن نقطةٍ معينة، وصبرٌ عظيم من الأستاذة منصورة على جميع أسئلتنا، خصوصًا الأسئلة الغبية التي كنت بطلها بلا منازع.
كان الروتين صارمًا على طريقة أرامكو -الشركة التي بني هذا المبنى العظيم على أراضيها-؛ لا يسمح إلا بالعمل(الكتابة) والنوم، ولكن تلك الأيام التي تربو على أسبوع كانت أفضل أيام سنة 2022م لكاتب هذه الكلمات. كان حالي كالطفل أول أيام العيد، متعب ومبسوط. متشبث بالأيام لا تذوق عينه الرقاد حتى يفقد الوعي.
وأما دخل المقدمة بالعنوان، فأظن أيام الورشة كان لها طابعٌ رومانسي وفقراتها الناضحة بالكتابة هي أمنية كل كاتب، ولكن أريد الدخول إلى أمورٍ أكثر دقة الآن. فورشة إثراء ليست إلا ثمانية أيام مكثفة من ثلاثمئة وخمسة وستين يومًا، ثمانية أيام أظن أني في ضوئها أستطيع تقسيم فكرة الحياة ككاتب إلى نقاطٍ قابلة للتطبيق.
اقرأ
لعل هذه أكثر نصيحة متعارف عليها، لذا سأكتفي بإضافة أمرٍ وحيد:
نوعية القراءة مهمة جدًا، فلاحظت حين إكثاري من قراءة الكتب المترجمة -خصوصًا للكُتّاب الأمريكيين المعاصرين- تتركرك لغتي، وتصبح كتابة جملة أصيلة أقرب إلى تحدٍ، فيسبق الفاعل الفعل، ويتشوه بناء الجمل، وتقتحم جملي مفرداتٌ غريبة عجيبة.
لكن عادةً ما أجد البلسم بين دفتي كتاب للمنفلوطي مكتوب بعربية باذخة فصاحتها، لذا لا بأس بقراءة الكتب المترجمة، لكن كن متيقظًا وأجعل منفلوطيك قريبًا.
ذكر ستيفن كينق في كتابه (مذكرات هذه الصنعة) نصيحتين مهمتين جدًا فيما يخص الكتابة:
"إذا كنت تريد أن تكون كاتبًا، يجب أن تفعل أمرين قبل أي شيء آخر: تقرأ كثيرًا..."
اكتب
"... وتؤلف كثيرًا. لا توجد أي وسيلة أعرفها للالتفاف على هذين الأمرين، لا يوجد أي طريق مختصر"
الكتابة عضلة تقوى إن مرّنتها، ولكنها ليست عضلة واحدة فقط. لذلك جرّب الكتابة في كل شيء، أكتب مقالًا، أكتب رواية، أكتب نوفيلا، أو قصة قصيرة، أو قصة قصيرة جدًا، أكتب أي شيء، إلا خاطرة -أمزح...-
في الورشة كُنا نجبر على كتابة أغرب السيناريوهات، فمرةً طُلِب منا وصف سقوط قنبلة ذرية، وفي أخرى قرأنا نصًا غامضًا وطلب منّا تخيل المشهد، وثالثة أن نصف مشهدًا يعطس فيه شخص لمدة دقيقتين، وأن نكتب مثل ماركيز، والطيب صالح، والوقت المعطى لتنفيذ كل هذه الطلبات كان، إذا أثرنا العطف، خمس دقائق للتدريب الواحد.
تعلّمت من هذه التمارين عدة دروس:
- أن الكتابة مع موعد تسليم محفز مذهل -خصوصًا والمُسلّم له أمامك-.
- أن بعد تجاوزك لحاجز الخوف الأولي، لا متعة وفائدة كمتعة وفائدة قراءة ومشاركة نصك.
- أني أنفع لـ، وأحيانًا أفضّل، الكتابة تحت الضغط.
- أني لا أعرف حقًا نوع النص الذي أحب كتابته، حتى أجرب كتابته وأبدأ بتعلمه.
لاحظ
كيف يتكلم مديرك في العمل؟
الموظف المجاور لك، كيف يبدو شكله عندما ينخرط في عمله؟
لمّا يخجل والدك، كيف يتحدث؟
ما لون بلاط حمّام بيتكم؟
ما لزمة والدتك حينما تغضب؟
هل تستطيع وصف غرفتك بتفاصيلها؟
هل تنام أختك الصغيرة مغمضة العينين كليًا، أم تبقي عينيها مفتوحتين قليلًا؟
هل تتذكر لون جدران آخر مبنى دخلته؟
عقل الكاتب يجب أن يكون دائم الانشغال بالملاحظة والتخيل، فهذه الأشياء تجعل من تأثيث عالمك مهمةً أمتع.
لكن!
هذا لا يعني أن تؤثث غرفة بطلك كما أُثثت غرفتك، إلا إذا كنت تكتب وثائقي عن نفسك. ما يعنيه هذا هو أن الاشتغال بالملاحظة والخيال يساعدانك على تذكر تفاصيلٍ تمزج بينها أو تستلهم منها تفاصيلًا لعالمك.
وإذا كنت قد دخلت مبنى إثراء، فستعرف أن ذاك المبنى مصدرًا عظيمًا لإثراء مخيلتك -آسف-، أتذكر الدرج الآلي الطويل الذي يبدأ من الدور الأرضي ويبدو أنه لا ينتهي إلا على أبواب السماء. والمكتبة الأشبه بعدة مكتبات مجتمعة في كلمة رأس. والأطفال الجلوس في الدور الأول أمام شاشة عرضٍ عملاقة. وإحساس أني دخلت في متاهة فيلم البريق (The shining) بل لم يكتمل يوم دون ضياع واحد من المشاركين في الورشة داخل الأروقة الممتدة للمبنى.
بالنسبة لي، سيكون لكل هذه التفاصيل دورٌ في قصةٍ قادمة، سواءً مجتمعة أو متفرقة، محرفة أو كما هي، وعن إثراء أو مكانٍ آخر.
املل
لا يساوي الملل هُنا الضجر، فتعريفي للأول هو الروتينية والفراغ وهو ليس سلبي أو إيجابي، بل مجرد حالة محايدة. أما الثاني فهو بالضرورة سلبي، وحينما يحضر دائمًا تكون باحثًا عن مخرج لتهرب منه. والأول قد يحضر في أي مكان -وقد حضر في أوقات الانتظار في الورشة- لكن الثاني حينما يحضر يتوقف المخ ويبدأ رفع الهاتف.
قرأت مرةً أن الملل هو أكثر دروب الإبداع سريةً، فأول الأمر لا يبدو أن هناك أبعد من الأمرين، ولكن عندما لا تنشغل بشيء، تجد الإبداع الطفولي الرافض للملل بداخلك ينطلق فجأةً إلى أماكن موجودة، ولكنها مهجورة.
أفضل أفكاري جاءتني وأنا أغسل النحاس، أو أكنس، أو أمشي، أو قبل النوم، أو حين الاستيقاظ، وطبعًا لم أنسَ المسبب الأول للأفكار العبقرية: الحمام.
يجمع بين كل هذه الأشياء جسرٌ سحري، هو مكانٌ يذهب إليه دماغك لمّا تكون شبه منشغل في عملٍ روتيني. وحتى يتحقق ذلك يجب -ولازم وضروري وتكفى ووالله يرحم والديك- أن ترمي هاتفك أبعد ما يمكن، فإن كنت تمشي وتستمع إلى آخر حلقات فنجان الفكرة الوحيدة التي ستأتي على بالك هي:
ماذا سيسألني أبو مالح لو كنت مكان الضيف؟
حسنًا يمكن هذا أنا بس لكن الفكرة قائمة: أبعد هاتفك!
ناقش وانخرط
في الورشة، جلست أمام روائيين عرب يُشار إليهم بالبنان، تعلّمت من ألمع العقول الأدبية، توسعت مداركي وتفتّحت لي أبوابٌ جديدة.
ورغم كل هذا، فقرتي المفضلة كانت المحادثات مع زملائي المشاركين في الدورة، ليس تقصيرًا من الأستاذة منصورة -الأسطورة- وبقية الضيوف الكرام، أو من البرنامج -بل البرنامج وفّر لنا الظروف المكانية والزمانية التي جعلت هذا الشيء ممكنًا- لكن لا أعرف إن ضاهى أي شيء سحر محادثة بين كُتّابٍ يناقشون آرائهم عن أدوات الكتابة، ومخيلاتهم، بل ومخيلات بعضهم.
فكان عمر، أحد الكُتّاب، يكره الحوارات مثلًا ويرى فيها "إيقافًا للقصة" ولا يرى كتابتها إلا في حال الحاجة الملحة، وكشخصٍ يرى العكس تمامًا، وجدت متعة لذيذة في محادثاتنا -ويا رب وجدها هو أيضًا! -.
وكانت إحسان، كاتبةٌ أخرى، ذات رأيٍ صريح ودقيق. من النوع الذي تكون ردة فعلك الأولى عليه: أح. ثم ردة فعلك الثانية: كيف ما خطر هذا التعليق على بالي؟!
وبعد قراءتي لإحدى نصوصي قالت لي: عندك حس ساخر واضح مرة، وينه عن مسودتك؟
كل محادثة تفجّر مخي، كل كاتب يزودني برؤيةٍ كنت معميًا عنها، محادثاتنا الصغيرة في أوقات الراحة، وفي المصعد، ووقت الغداء، وعند دخولنا متحمسين وخروجنا منهكين، تحولت إلى خبرةٍ أحملها معي كل مرةٍ أكتب، بل تعليق إحسان كان كفيلًا بتغييري لراوي روايتي التي أشتغل عليها.
لمّا قرأت نصي أول مرةً وانهالت علي الانتقادات من كل صوب شعرت بنقص، ودفاعية، وأردت الرد على كل انتقاد بنفس الحدة التي تخيلتها موجهة لي، ثم بعد أن هدأت، ورأيتني أنتبه لتلك العيوب حين أكتبها، واستوعبت أنّي أشخصن النقد، وهذا موت كل مشتغلٍ بالأعمال الإبداعية. وبعد إدراكي بدأت أفهم أن كل من انتقد نصي، أسدى لي معروفًا يجب أن يُكافأ عليه بامتنانٍ لا ينتهِ.
فخالط الكُتّاب، أبحث عنهم وأدخل في عمقهم، وأسمع لانتقادهم، أشعر بالحرج، لا بأس، فإبداء الملاحظات على نصوصك هو عملٌ في أسوأ حالاته يكشف لك مكامن الخلل فيها لتصلحها.
ألست تريد أن تكون نصوصك في أحسن حال؟
طبعًا، لا يشترط حضورك لورشة حتى تنخرط بالكتاب وتناقش كتاباتهم وكتاباتك، فمجموعات الكتابة موجودة في كل مكان، تستطيع الانضمام لمجتمعنا، مجتمع كُتّاب سرد مثلًا.
خاتمة عاطفية
بعد ثمانية أيام حافلةً بالكتابة، أعد لنا فريق إثراء الرهيب -الذين لا أعرف كيف استفادوا ماليًا من هذه الورشة- حفلًا ختاميًا.
قرأنا نصونا لآخر مرة، تسلمنا شهادات حضورنا، أكلنا كيكة شوكولاتة مفرطةً في شوكولاتتها، شكرنا العاملين على الورشة على ذكرى تلوح في خيال المرء من فترةٍ لأخرى مصحوبة بابتسامة عميقة.
ألتقطنا صورًا تذكارية، وجلسنا نتكلم.. كانت هناك مواضيع نناقشها، ثم أصبحنا نختلق المواضيع، ثم أعدنا مواضيعنا السابقة، ثم أعدنا المواضيع المختلقة، وتساقط المتشاركون كاتبًا تلو الآخر.
كنت ضمن آخر ثلاثةٍ بقوا في مواقف سيارات إثراء شبه المعتمة، نتحدث عن لا شيء، متشبثين بالذكرى، وقد أصبحنا ثلاثتنا كأطفالٍ في العيد، نعتقد أن بقائنا هنا يعني إيقاف الزمن.
ذكرتني تلك الليلة بشيءٍ آخر، ذكرى جلوسي مع زملائي بعد آخر اختبار في المرحلة الثانوية، كنا نعرف أننا وإن التقينا مجددًا، فلن يكون الإحساس كما كان.
لعلي أبالغ، ولكن سأخبئ دراميتي خلف حساسية الكُتّاب، فلو لم تستفز مشاعري بذاك القدر، ما استطعت كتابة هذه المقالة، وتلك الأيام مثلت لي جزءً عظيمًا من هذه الفكرة الحالمة التي ما زلت أطاردها: فكرة أن أعيش ككاتب.
محمد الأحمدي
تويتر: Mohamadwrites
 
																									