خمس ساعات

21 مارس 2023
Admin
خمس ساعات

خمسُ ساعاتٍ مكثتها مُنتظراً أثناء عملية والدي، لا أكاد أُخفي توتري و قلقي و مرارة الانتظار حينها، و لكن ماذا لو قلتُ لكم أنها أعظمُ مدة انتظارٍ مكثتها في حياتي. خمسُ ساعات انتظار و لكن بشكلٍ مُختلف و بصورة غير معتادة، جسدٌ ثابت و أيدي أبت أن تقر ، معبرة عن مدى قلقِ وتوترِ هذا الجسد. لا أكادُ أذكر تفاصيل مكان الانتظار بالرغم أن وجودي جسدياً بينما ذهنياً لستُ متواجداً حينها، غِبتُ هذه المدة إلى مكانٍ لا أذكره، كُلُ ما أذكرهُ هو حديث الاطباء من حولي حيث أنني أذكر تفاصيل حديثهم حتى الان في وقتٍ كُنتُ فيهِ غائباً ذهنياً .


استفتحتُ رحلة الغياب الذهني بحديثُ الأطباء عن مُراجعيهم و مرضاهم، عن الاجتماعات التي لابد حضورها لدراسة و تشخيص مريضٍ ما، فكان هذا بابٌ لي لعرض شريطٌ ذهني عن مسيرتي العملية و المهنية القادمة متناسياً هذه اللحظة، وما أن مكثتُ طويلاً عند هذا الباب لأرى هذا الشريط التهمني كثقبٍ أسود آخذاً بي إلى تلك الانحناءات المؤلمة التي يمرُ بها المرء ليصنعَ بها مجداً و تبني شخصاً و تؤسس كياناً، ماراً بي بتلك المراحل التي تمكثُ بين طياتها الكثير من الليالي المتعبة و المؤلمة و الكثير من اليأس و السهر و فقدان لذة العيش التي صنعت بدورها هذا الحديث و المتحدثين به. حديثُ الأطباء لم يكن عابراً بالنسبةِ لي ، فخلفُ هذا الحديث الكثير من التضحيات و التنازلات الكثير من التعب و الألم. و أثناء هذا الغياب الذهني و تتابع الصور أخرجني من استمرارية صورِ هذا الباب طريقةُ حديث طبيبةٍ مارة من أمامي

وطريقة شرحها لطبيبٍ آخر ، ليكون هذا الحديث و هذه الطريقة بابٌ آخر قد دخلتهُ دون أن يلتهمني، فشغف تلك الطبيبة كان مفتاحُ ذلك الباب الذي كان عالمهُ مُختلفٌ تماماً، والذي أدركتُ حينها أن عندما تُصاب بالتعب و اليأس و التوقف فيما تقومُ به، ليس هناك منقذٌ لك غير شغفك فيما تقوم به، أن ترى تلك الوظيفة بطريقةٍ مُختلفة عن العادة، أن ترى هناك ماهو أهمُ بكثير من أن تقبضَ مرتباً لقاء عملك، أن ترى ما تقوم بهِ مؤثراً على من حولك وعلى دائرةُ مجتمعك، أن ترى تعبك و إرهاقُ ما تقوم بهِ سبباً في انقاذ شخصٍ ما، أو تحسين دائرةٍ ما أو تطوير عصرٍ ليكون حينها عصراً جديداً، الطريقة التي تنظرُ بها عملك و إدراكك لحقيقةُ العمل تعكس مدى تأثيرُ ما تقومُ به .


انقضت الساعة الخامسة من الانتظار بصوتِ الممرضة تُنادي مرافقَ والدي ليكون بها أدركتُ أنني مكثتُ خمسة ساعاتٍ غائباً ذهنياً أتجولُ بين هذه البابين.

بندر عبدالله